***

 

 

صوت بهائم يخترق ساحة المنزل المغمور بالماء، صوت اصطدام أرجل سريعة الخطى بالماء، ارتعاش، أنين، اصطكاك أسنان، ثغاء وصياح، رياح هوجاء شبيهة بتلك التي تهب في أفلام الويسترن، لا تنقصها إلا موسيقى "Ennio Morricone"...

اختلطت الأصوات على العجوز رغم أنها لا تتقن إلا فن تمييز الأصوات وكأنها مازج صوت "Mixeur de son" يشتغل باستوديوهات بوليود. تعرف كل شيء من خلال الذبذبات، السكنات والحركات، تعرف عالمها وتنظمه كما ينظم نحَّات بأشلاء منحوتة غلبها الزمان!

إن الدماغ يبرمج كل حركاتنا، يخزن كل الصور التي سبق وأن رأيناها، كل الأصوات التي سمعناها...

تتحرك العجوز في البيت دون معين وفقا لما خزنته من صور قبل فقدان البصر. تكنس، تطبخ، تعجن، تنظف الأواني والثياب، تغزل وتنسج بل إنها خبيرة في صناعة الزرابي والجلابيب.

لكن، لا يهمها الآن إلا صوت واحد.. استجمعت قواها وأمسكت بيد ابنها وكأنها تراه!

- فَيْنْ بْقَيْتِ أَوْلَيْدِي؟ يَاكْ لاَ بَاسْ؟ زِيدْ زِيدْ...

تشعر الأم بغبطة ممزوجة بالأسى وهي تتحسس رأس ابنها كما كانت تتلمسه وهو رضيع.

نصغر في أعين أمهاتنا مهما كبرنا.. وتكبر في أعيننا أمهاتنا بعد الموت!

أدركت الرعشة التي تهز جسد ابنها. أسرعت نحو الموقد لتحمل النار. عادت دون أن تنزلق محافظة على توازنها وعلى النار.

مدت المجمر داعية له بالصحة والعافية.. مؤكدة نيتها نسج جلباب جديد يُمْكِنُ أن يتباهى به بين أقرانه من أبناء القرية.. فصيف هذه السنة سيكون مليئا بالحفلات.

 

 

***